في الثلاثين سنة الاخيرة، قل الاهتمام بالثقافة والفنون والاداب، وزاد التركيز على الغرائز كالطعام والشراب والترفيه السطحي (الاغنيات الهابطة، القنوات الفضائية والانترنت في مجالات محدودة جدا، الهواتف النقالة في الترفيه وليس الاعمال، الخ).
اختفت المكتبات العامة، وبعدها اختفت الخاصة ايضا، وقلت المنتديات الثقافية والادبية والفنية وجلسات الاستماع وكادت تنعدم. البعض يعزو الامر الى انشغال الناس بأكل العيش وضمور الطبقة الوسطى القارئة، ولكني أجد هذا التبرير غير مقنع: فمستوى حياة الناس ارتفع حقيقة ويظهر ذلك من مؤشرات اخرى خاصة في الاكل والشرب والركوب واللبس ونوع الاثاث والمفروشات، حتى في بيوت الاحياء الفقيرة التي صار الكثير منها يتزين بالستائر والسيراميك، والناس يقرأون الصحف الرياضية بأعداد كبيرة جدا تفوق الصحف الثقافية والعامة، والناس يشترون رصيد للتلفون ويشترون الرسيفرات وكروت القنوات الرياضية (الكورة والمصارعة) بأعداد هائلة والطريف ان ذلك أكثر في الاحياء الفقيرة! والناس يشترون الشرايط والسي ديهات وفايلات الام بي ثري ولكن ليس للموسيقى الراقية والاغنيات الرصينة بل لأشياء اخرى لعلكم تعلمونها، المهم أن هذا ينفي مسألة القدرة الشرائية.
المسألة بالنسبة لي هي أن الثقافة الرديئة قد أزاحت الثقافة الجيدة من السوق، لأن هذا قانون عام ومعروف خاصة في الاقتصاد، ولكن السبب الاكبر هو أن الثقافة لا بواكي لها، لا أحد يعمل على تشجيعها ونشرها وتسهيل الوصول اليها والدفاع عنها. الشباب الجدد بعضهم يجهل اي شئ عن ثقافته الوطنية والثقافة العالمية على السواء، وبعضهم لا يجدها ولا يجد حتى الفرصة للتعرف عليها عن قرب وتذوقها قبل التقرير في أمر ملاءمتها، وبعضهم يعاديها مسبقاً ظناً منهم أنها شئ قديم ومندثر ولا يليق بالانسان العصري المواكب ان يتهم بشبهة الرجعية والتخلف في الذوق الثقافي!
هذه دعوة مني للاخوة والاخوات في هذا المنتدى الرائد ومنظمته النشطة، أن يلتفتوا الى غذاء العقول والأرواح. بعد أن بذلوا جهدا كبيرا وملحوظا وناجحا في مجال الاجساد خاصة الضعيفة (أطفال السجينات، العجزة) واهتموا بأمر الصحة والعلاج، وتأهيل السجينات وغيرها من المبادرات الرائدة.
أقترح أن تلتفت المنظمة بكل جهدها الان، الى الجانب الغائب تماماً من حياة عروس الرمال، والجانب الذي لا تخاطبه للأسف أي منظمة او جهة اخرى، والجانب الذي يشبه هذه المنظمة خاصة وأن إسمها المنتدى، والمنتدى كان دائما مكانا للتلاقى وتبادل الافكار والثقافة والفنون والاداب قبل ان يكون لاي غرض آخر.
أقترح ان تتبني المنظمة إقامة منتدى حقيقي من لحم ودم (أو من أسمنت وحجر وطين وطوب) يكون مركزا للثقافة والفنون والاداب، ومكتبة عامة للشباب والطلاب وطلاب الثقافة والعلم ومركزا للاشعاع العقلي والمنتج الثقافي عالي القيمة والجودة.
لقد كانت كردفان مهدا لأول مبادرة صحفية اقليمية في السودان، من خلال صحيفة كردفان وجرأة وابداع المرحوم الفاتح النور، فلتكن كردفان عروس الرمال اليوم، أول من يبادر على مستوى السودان، لإعادة الروح الى الروح، والى الشعب، وإعادة ترتيب الاولويات، فليس بالخبز والترفيه السطحي والغرائز وحدها يحيى الانسان الحضري الراقي، بل بالزاد الثقافي كما قال الشاعر:
إن رمت عيشا ناعما ورقيقا فاسلك اليه من الفنون طريقا
واجعل حياتك غضة بالشعر والتـــــــصوير والتمثيل والموسيقى
إن الحياة على الكدورة لم تجد مثل الفنون لنفسها راووقا
وهناك الان مسعى من وزارة الثقافة الولائية لإقامة قصر للثقافة بعروس الرمال، ولكن لتكن مبادرتنا سابقة للدولة ومتقدمة عليها، في التصور والشمولية والاستمرارية والعمق والبعد عن الروتين والبروقراطية الحكومية، لتكن مبادرة المنظمة أيضا نواة لاصدار جريدة أو مجلة كردفانية للثقافة والفنون والابداع، ولتكن نواة لمركز للتدريب والانتاج الفني في الدراما والتصوير والتشكيل والفلم (فيديو وسينما وتلفزيون) والصحافة والنشر وغيرها من ضروب الانتاج الثقافي. ولتكن مبادرة المنظمة مفتاحاً لعودة الوعي وعودة الاهتمام بالثقافة الراقية، بالكتاب والمجلة والقصيدة والرواية والقصة والصورة واللوحة وغيرها من ابداعات، ولتكن مسرحاً للتنافس الجميل على الابداع، ومحضنا للمبدعين الشباب، ومعملا للتجريب حتى يرى الشباب الجدد ألوانا مختلفة من الثقافات والفنون غير هذه الهابطة والسطحية السائدة حاليا، ويتذوقوا قيماً راقية ومختلفة ونابعة في نفس الوقت من ثقافتنا المتجذرة، المحلية، العريقة، ومتشربة من أفضل ما في الانتاج الثقافي الانساني العام.
دعوة لمناقشة الفكرة وجدواها وامكانية تنفيذها واليات التنفيذ ومراحله الخ.